الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن المعتبر الناظر إلى شهر رمضان وأحوال الناس فيه ليرى ما يثير التعجب؛ فهل لرمضان سر في قلوب المؤمنين؟!
إننا
لنرى من أحوال الناس في رمضان من الهمة العالية ما يحير العقول والقلوب،
والإقبال على الله -تعالى-، والاجتهاد في الأعمال الصالحة!
فإن الناس قبل رمضان نوعان:
أولهما:
من انشغل بالدنيا وصاحب أهل الغفلة والسهو واللعب، وصاحب أهل الذنوب
والمعاصي، فليس له همة للعمل الصالح، وإنما هو له همة دنيئة حول الحش، لا
يفكر إلا في الطعام والشراب، والملذات والشهوات، بعيد عن ربه، مقبل على
شهواته؛ لم يذق طعم الإيمان ولا حلاوته، ولا استشعر سعادة القلب وهدوء
النفس.
ثانيهما:
من له همة ترقيه وعلم يبصره ويهديه، من أهل العلم والخير والعمل الصالح،
عابد لربه مقبل عليه، مجتهد في طاعته، يزداد مع مرور الوقت إيمانًا وعملاً،
يجد حلاوة الإيمان وطعمه ولذته، رزقه الله علمًا نافعًا وعملاً صالحًا،
استقام له سيره إلى الله -تعالى-.
فلما
أقبل رمضان بخيره وبركته؛ فغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين؛ فقل شرهم
وكيدهم ومكرهم، إذا بأصحاب الغفلة يقبلون على الله -تعالى- تائبين عابدين
ساجدين.
استيقظتْ
من النوم والغفلة قلوبهم؛ فحيت همتهم فأقبلوا على الصلاة، وامتلأت بهم
المساجد، وأقبلوا على القرآن يقرؤونه ويرتلونه وإن ضعف حالهم شيئًا ما،
وأقبلوا على صلاة التراويح يتسابقون إليها بقلوب محبة مشتاقة لربهم، نفضوا
عن أنفسهم غبار الغفلة؛ فرأينا من أحوالهم عجبًا، صاموا رمضان وقاموا
لياليه، وقرؤوا القرآن، وأقبلوا على الذكر، وتصدقوا وأطعموا الطعام وأقبلوا
على أبواب الخير، فلرمضان أثر على قلوبهم؛ فرفع همتهم بما لم يكونوا عليه
قبل رمضان، فرمضان بالنسبة لهم شهر الهمة العالية.
والصنف
الآخر من أهل الهمة العالية في غير رمضان، بقدومه عليهم وإقباله قد ارتفعت
وسمت همتهم أكثر مما كانوا عليه؛ فإذا هم قد بلغوا الغاية القصوى من
الاجتهاد في العمل، فمن السلف من كان يختم القرآن في كل أسبوع مرة، فإذا هو
في رمضان يختم في كل يومين، ومن كان يختم في كل يومين في غير رمضان إذا هو
يختم في رمضان في كل يوم مرة، حتى قيل: إن الشافعي -رحمه الله- كان يختم
القرآن في رمضان في كل يوم مرتين، فيختم في رمضان ستين ختمة!
فيا لعجب هذا الشهر على المؤمنين.. !
يرفع همتهم فيسمو بها إلى السماء.. إلى العرش، فهمته تحوم حول العرش،
ومنهم من يقوم الليل كله، ومنهم من يقبل على صلاة التهجد في العشر الأواخر
من رمضان، ووالله في غير رمضان لو فاتته صلاة الجماعة لعذر من نوم أو نسيان
أو طعام ما حزن وما تألم بمثل من تألم منهم ما لو فاتته صلاة التهجد في
العشر الأواخر، بل منهم من يبكي لفواتها بكاء الثكلى "أي: الأم التي فقدت
ولدها"!
لما
علت همتهم ذاقوا حلاوة وطعم العبادة، فإذا فاتتهم حزنوا وتألموا؛ لأنهم
خافوا ألا يدركوها بعد ذلك أبدًا، لقد فات وقتها ولربما قد تكون ليلة القدر
وقد نام عنها أو سها عنها، فهؤلاء العاملون أصحاب الهمم العالية ليرون في
رمضان موسمًا للتزود بالخير ليوم المعاد.
يتزودون في رمضان من الخير والعمل الصالح، وحالهم كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه في الصلاة: (إِذَا قُمْتَ فِي صَلاَتِكَ فَصَلِّ صَلاَةَ مُوَدِّعٍ) (رواه أحمد وابن ماجه، وحسنه الألباني)،
فإذا هم يقولون بلسان حالهم: "صوموا صيام مودع"، "قوموا قيام مودع"،
"اقرأوا القرآن قراءة مودع"، بل "اعملوا في رمضان عمل مجتهد مودع، لا يدرك
رمضان بعده"، فإذا أعمالهم أحسن الأعمال وأكملها، وأجملها وأتمها؛ لأنها
أعمال مودع يلقى الله -تعالى- بها فيجعلها بين يدي ربه عند لقائه به.
فرمضان شهر علو الهمة؛ لأن أسباب علو الهمة في رمضان متوافرة، منها:
أولاً: معرفة فضائل الأعمال: فبالعلم النافع يعرف العبد فضائل الخير، وثواب الأعمال الصالحة في رمضان.
مثل: قال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (متفق عليه)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) (متفق عليه).
فترتفع
الهمة طلبًا للمغفرة والعتق من النار، فيصوم العبد ويقوم إيمانًا
واحتسابًا، وكذلك تفتح أبواب الجنة، وتتهيأ لأصحابها فتعلو الهمة للخير
طلبًا للجنة، والنجاة من النار.
ثانيًا:
تعلو همة المسلم في رمضان عن غيره، لما يجد من أعوان على الخير والبر
والإحسان، فيجد بيئة صالحة حوله، تعينه على الخير، ولما يجد من التنافس
والتسابق في الخيرات من السبق على صلاة التراويح والتهجد، والتنافس في كثرة
ختم القرآن الكريم، والجلوس في المساجد بعد صلاة الصبح في ذكر الله إلى
طلوع الشمس، وصلاة ركعتين في المسجد بعد الشروق.
فمجالسة الصالحين وأصحاب الهمم العالية ترفع الهمة، ورؤية أهل الخير ووجوه الصالحين ترفع الهمة في فعل الخيرات وترك المنكرات.
في
رمضان يزداد الإيمان، فتظهر آثارهم على الوجوه، كما قال ابن عباس -رضي
الله عنهما-: "إن للحسنة ضياء في الوجه، ونورًا في القلب، وسعة في الرزق،
ومحبة في قلوب الخلق، وقوة في البدن"، فرؤية هذه الوجوه والنظر إلى أحوالهم
ترفع الهمة، بل وسماع أخبارهم كذلك.
ثالثًا:
من أسباب علو الهمة في رمضان الدعاء، فهو شهر الدعاء، فيكثر المسلم من
الدعاء والتقرب إلى الله -تعالى- بالدعاء في أوقات الإجابة في رمضان وأحوال
الإجابة؛ فإذا هو يدعو الله -تعالى- ليلاً ونهارًا، سرًا وجهارًا بقوله: (اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني)، وقوله: (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة:201).
وقوله: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) (آل عمران:8)، وقوله: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ) (رواه مسلم)، وهكذا... فرمضان شهر الدعاء فبالدعاء ترتفع الهمة وتعلو إلى السماء.
رابعًا: من أسباب علو الهمة في رمضان معرفة قيمة الوقت أي: العمر، فهو الثروة والهبة الربانية التي هي أنفس وأغلى ما يملكه المسلم.
في رمضان..
يعرف المسلم قيمة الوقت، فكل لحظة من رمضان ليلاً ونهارًا لها قيمتها ولها
ثمنها، بل كل نَفَس له قيمته من: تسبيحة، أو تهليلة، أو تكبيرة، أو
تحميدة، أو استحضار أو قراءة آية من القرآن، أو أمر بالمعروف أو نهي عن
المنكر.
يقول الحسن البصري -رحمه الله تعالى-: "ما من يوم يخرج إلا ويقول: يا ابن آدم اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا وتقول: يا ابن آدم اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي".
خامسًا: معرفة
نعم الله عليك وبره وإحسانه به، فهو في رمضان يعيش في نعم الله وهباته
ومننه، فهو يجتهد في شكر هذه النعم، نعم الله عليه في رمضان من تيسير
العبادة وإعانته له، وفضله وبره بعظيم أجر العبادات فيه، وإن بلغه شهر
رمضان ووفقه للعمل الصالح فيه، فهو يستحي من ربه أن يجعل هذه النعم في غير
ما يجب، وأن يغفل عن استثمارها في مرضاته وفي محابه، فهو يجتهد وتعلو همته
في شكر هذه النعم وحفظها؛ ليزداد إيمانه بها، ويرتفع بها في الجنة درجات،
ويزداد بها حبًا لله، ويزداد حبه الله له بشكرها.
قال الله -تعالى-: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم:7)، وقال -تعالى-: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) (النحل:53)، وقال -تعالى-: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا) (إبراهيم:34).
سادسًا:
زوال المعوقات لعلو الهمة من أثر شياطين الجن، فإنها تصفد في رمضان فيقل
شرها وفسادها، والبعد عن صحبة الغافلين والعاصين، وكذلك خلطة وصحبة
البطالين من أصحاب العبث واللهو والسهو.
وزوال
المعوقات مثل اتباع الهوى، فزوال ذلك باهتمام العبد بالصيام والقيام
وقراءة القرآن؛ فينصلح القلب وتزكو النفس، فيقبل على ربه، محبًا لأمره
وشرعه، مؤثرًا إياه على اتباع الهوى، فزوال المعوقات لعلو الهمة سبب من
أسباب علو الهمة في رمضان، فرمضان شهر علو الهمة.
فنسأل
الله -تعالى- أن يصلح قلوبنا ويشرح صدورنا بالإيمان وأن يرزقنا بفضله ومنه
وكرمه وجوده -تعالى- علمًا يبصرنا ويهدينا، وهمة ترقينا. إنه ولي ذلك
والقادر عليه.
منقول